من عجائب الهجرة النبوية ما حصل فيها

روى البخاري في الصحيح عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَرْبَعِينَ سَنَةً، فَمَكُثَ بِمَكَّةَ ثَلاثَ عَشْرَةَ سَنَةً يُوحَى إِلَيْهِ، ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ فَهَاجَرَ عَشْرَ سِنِينَ، وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وَسِتِّينَ.اهـ

وقد كانت هجرته عليه السلام في شهر ربيع الأول سنة ثلاث عشرة من بعثته عليه السلام وذلك في يوم الاثنين كما رواه الإمام أحمد عن ابن عباس أنه قال: ولد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين واستنبئ يوم الاثنين وتوفي يوم الاثنين وخرج مهاجرا من مكة الى المدينة يوم الاثنين وقدم المدينة يوم الاثنين ورفع الحجر الأسود يوم الاثنين.اهـ

– سبب هجرته صلى الله عليه وسلم أن قريشًا لما رأت خروج من أسلم إلى المدينة بالذراري والأطفال، خافت خروج المصطفى، وعلمت أنه قد صار للمسلمين منعة وقوة، فاجتمعوا للتشاور في أمره في دار الندوة، وحضرهم إبليس في صورة شيخ نجدي، فأشار كل برأي، وإبليس يرده، إلى أن قال أبو جهل: نأخذ من كل قبيلة من قريش غلامًا بسيف فيضربونه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه في القبائل فلا يمكن بنو عبد مناف حرب الكل فيرضوا بالعقل، فقال النجدي: هذا هو الرأي، فتفرقوا عليه، وأخبر جبريل النبي بذلك، فلم ينم في مضجعه تلك الليلة، واجتمعوا ببابه يرصدونه لينام، فيثبوا عليه، فقال لعلي: “نم على فراشي وتسجَّ ببردي فلن يخلص إليك شيء تكرهه” وأخذ حفنة تراب وخرج عليهم فلم يروه فوضع التراب على رءوسهم وهو يتلو سورة يس إلى قوله تعالى: {فأغشيناهم فهم لا يُبصِرون} [سورة يس] ثم انصرف فأتاهم ءاتٍ فقال: خرج محمد وما منكم إلا مَنْ وضع على رأسه ترابًا، فوضع كل منهم يده على رأسه، فوجد التراب، ثم جعلوا يتطلعون، فيرون عليًا على الفراش متسجيًا ببرد رسول الله، فيقولون: هذا هو نائم على فراشه، فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا فقام عليّ من الفراش.

– روى البيهقي في دلائل النبوة: خرج رسول الله ليلا فتبعه أبو بكر، فجعل يمشي مرة أمامه، ومرة خلفه، ومرة عن يمينه، ومرة عن يساره، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما هذا يا أبا بكر ؟ ما أعرف هذا من فعلك ؟ » قال: يا رسول الله، أذكر الرصد فأكون أمامك، وأذكر الطلب فأكون خلفك، ومرة عن يمينك ومرة عن يسارك، لا آمن عليك.

ومن عجائب الهجرة النبوية لما وصلا فم الغار، قال: والذي بعثك بالحق لا تدخله حتى أدخله، فإن كان فيه شيء نزل بي قبلك، فدخل فلم ير شيئا، ثم دخل رسول الله، وكان في الغار خرق فيه حيات وأفاع، فخشي أبو بكر أن يخرج منهن شيء يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألقمه قدمه فجعلن يضربنه ويلسعنه الحيات والأفاعي، وجعلت دموعه تنحدر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: « يا أبا بكر لا تحزن، إن الله معنا ».

وروى البيهقي في دلائل النبوة: أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الغار أمر الله عز وجل بشجرة، فنبتت في وجه النبي صلى الله عليه وسلم فسترته، وأمر الله العنكبوت فنسجت في وجه النبي صلى الله عليه وسلم فسترته، وأمر الله حمامتين وحشيتين فوقفتا بفم الغار، وأقبل فتيان قريش من كل بطن رجل، بعصيهم وهراويهم وسيوفهم، حتى إذا كانوا من النبي صلى الله عليه وسلم بقدر أربعين ذراعا، فجعل رجل منهم لينظر في الغار فرأى حمامتين بفم الغار، فرجع إلى أصحابه، فقالوا له ما لك لم تنظر في الغار ؟ فقال: رأيت حمامتين بفم الغار، فعلمت أنه ليس فيه أحد.اهـ

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، أخبرني عثمان الجزري أن مقسمًا مولى ابن عباس أخبره عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ} [الأنفال: 30] قال: تشاورت قريش ليلة بمكة. فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق يريدون النبي صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم: بل اقتلوه. وقال بعضهم: بل أخرجوه. فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك، فبات عليّ على فراش النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون عليًا يحسبونه النبي صلى الله عليه وسلم. فلما أصبحوا ثاروا عليه، فلما رأوا عليًا، ردَّ الله عليهم مكرهم. فقالوا: أين صاحبك هذا؟ فقال: لا أدري. فاقتفوا أثره فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم، فصعدوا الجبل فمروا بالغار، فرأوا على بابه نسج العنكبوت. فقالوا: لو دخل هاهنا أحد لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليال.اهـ

– بعد أن مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر الصديق رضي الله عنه في غار ثور، ثلاث ليال، ارتحلا، ومعهما عامر بن فهيرة يخدمهما، واستأجرا عبد الله بن أريقط، يدلهما على الطريق، فأخذوا نحو طريق الساحل أسفل من عُسفانَ، والحق سبحانه، شاغل لعدوهم عن اتباع ءاثارهم من تلك الجهة.

من عجائب الهجرة النبوية : قصة سراقة بن مالك ولحاقه بالنبي صلى الله عليه وسلم

وبلغ سراقة بن مالك بن جُعشم الـمُدلـِجي أن سوادًا مرّ بالساحل، فركب فرسه، منتهزًا للفرصة، خفية من قومه، يريد برسول الله صلى الله عليه وسلم فتكًا أي قتلاً ليحصل على ما جعلت قريش لمن رده أو قتله، وهو غير فاتك به لأن الله حماه وعصمه.

فحث في الطلب حتى أدركهما، فصُرع عن فرسه، فأخرج الأزلام فاستسقم بها فخرج ما يكره، فركب وحثَّ في الطلب، فصار أبو بكر يكثر التلفت، والمصطفى يقرأ ولا يلتفت، فلما قرب منهما قال: “اللهم اكفناه كيف شئت وبما شئت“. ودعا عليه فساخت يدا فرسه إلى بطنها في أرض جَلَدٍ وخرَّ عنها فناداه بالأمان، لحبسه عن لحوقه له، فدعا له، فانطلق فرسه، ووقف المصطفى، حتى جاءه فأخبره ما يريدُ به قومه، وأنهم قد جعلوا فيه الدية، فقال: أخف علينا، فرجع، فوجدهم يلتمسونه، فقال: ارجعوا فقد استبرأت لكم ما ههنا، قال: فخرجتُ وأنا أحبُّ الناس في تحصيلهما ورجعتُ، وأنا أحَبُهم في أن لا يعلمَ بـهما أحد، وفي ذلك يقول مخاطبًا لأبي جهل:

أبا حكمٍ لو كنتَ واللهِ شاهدًا

لأمرِ جَوادي إذ تسيخُ قوائمُهْ

علمتَ ولم تشكُكْ بأنّ محمدًا

رسولٌ ببرهانِ فمَنْ ذا يقاومُهْ

عليكَ بكفِ القومِ عنه فإنني

أرى أمرَه يومًا ستبدُو معالـِمُهْ

بأمرٍ يَوَدُّ الناسُ فيه بأسرِهِمْ

بأنّ جميعَ الناس طُرًّا تُسالـِمُهْ

ويقال: إن المصطفى كتب له كتابًا بالأمان في عظم أو أَدَم، وأنه وافاه به يوم الفتح فرحب به وأمّنه، ووقع لسراقة هذا عَلَمٌ من أعلام النبوة وهو قول المصطفى: “كيف بك إذا لبست سِوارَي كسرى” فلبسهما أيام عمر.

من عجائب الهجرة النبوية : مسح النبي على شاة أم معبد

– بعد ذلك مروا على خيمة أم معبد، واسمها عاتكة بنت خالد الخزاعية، وهي على طريقهم، مختبئة بفناء خيمتها، تسقي المارة من الماء واللبن، ونظر النبي صلى الله عليه وسلم عندها شاة، قال: ما هذه؟ قالت: “شاة أضر الجهد بها وما بـها قُوى” تشتد بها حتى تلحق الغنم ترعى معهم. قال: “هل بها من لبن” ؟ قالت: هي أجهد من ذلك. فمسح النبي منها ظهرها وضرعها وسمى ودعا، فحلب ما قد كفاهم وُسعًا أي ما تحتمله طاقتهم من الري.

وحلب النبي بعد ذلك إناء ءاخر ثانيًا، وترك ذاك الإناء عندها مملوءًا، وسافر بعد أن بايعها على الإسلام واستمرت تلك البركة فيها.

[وفي بعض الروايات: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من مكة مهاجرا إلى المدينة هو وأبو بكر ومولى أبي بكر وهو عامر بن فهيرة ودليلهما عبد الله بن أريقط، مروا على خيمة أم معبد الخزاعية، وكانت امرأة برزة جلدة تسقى وتطعم بفناء الكعبة، فسألوها لحما وتمرا ليشتروه، فلم يصيبوا عندها شيئا، وكان القوم مرملين، وفي كسر الخيمة شاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أم معبد هل بها من لبن قالت: هي أجهد من ذلك، فقال: أتأذنين لي أن أحلبها قالت: نعم إن رأيت بها حلبا، فمسح بيده ضرعها وسمى الله ودعا لها في شاتها، فدرت، واجترت، فدعا بإناء فحلب فيه حتى علاه البهاء ثم سقاها حتى رويت ثم سقى أصحابه حتى رووا وشرب آخرهم، ثم حلب فيه ثانيا ثم غادره عندها وبايعها وارتحلوا عنها.

وفي لفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل عندها هو وأبو بكر ردفان مخرجه إلى المدينة حين خرج فأرسلت إليه شاة فرأى فيها بصرة من لبن فقربها فنظر إلى ضرعها فقال: والله إن بهذه الشاة للبنا، وهي جالسة تسد سقيقتها، فقالت: اردد الشاة، فقال: لا ولكن ابعثي شاة ليس فيها لبن، فبعثت إليه بعناق جذعة، فقبلها.

وفي لفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل عليها فأرسلت إليه شاة تهديها له فأبى أن يقبلها فثقل ذلك عليها فقالوا إنما ردها لأنه رأى بها لبنا فأرسلت إليه بجذعة فأخذها.

وذكر الواقدي في قصة أم معبد قصة الشاة التي مسح النبي صلى الله عليه وسلم ضرعها وذكر أنها عاشت إلى عام الرمادة، قالت: فكنا نحلبها صبوحا وغبوقا وما في الأرض لبن قليل ولا كثير.]

ثم لما رحلوا جاء زوجها أكثم بن الجون يسوق غنمًا أعنزًا عجافًا، فلما رأى اللبن عجب وقال: من أين ولا حلوب في البيت؟ قالت: مر بنا رجل مبارك من حاله كذا. قال: صفيه؟

وصف أم معبد للسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم

قالت: ظَاهِرُ الْوَضَاءَةِ أَبْلَجُ الْوَجْهِ حَسَنُ الْخُلُقِ لَمْ تَعِبْهُ ثُجْلَةٌ وَلَمْ تُزْرِ بِهِ صعْلَةٌ وَسِيمٌ قَسِيمٌ فِي عَيْنَيْهِ دَعَجٌ وَفِي أَشْفَارِهِ وَطَفٌ وَفِي صوَتِهِ صَحَلٌ وَفِي عُنُقِهِ سَطَعٌ. وَفِي لِحْيَتِهِ كَثَاثَةٌ أَحْوَرُ أَكْحَلُ أَزَجّ أَقْرَنُ شَدِيدُ سَوَادِ الشّعْرِ إذَا صَمَتَ عَلاهُ الْوَقَارُ وَإِذَا تَكَلّمَ عَلاهُ الْبَهَاءُ أَجْمَلُ النّاسِ وَأَبْهَاهُ مِنْ بَعِيدٍ وَأَحْسَنُهُ وَأَحْلاهُ مِنْ قَرِيبٍ. حُلْوُ الْمَنْطِقِ. فصل لا نَزْرٌ ولا هَذَرٌ كَأَنّ مَنْطِقَهُ خَرَزَاتُ نَظْمٍ يَنحدرنَ، رَبْعَةٌ لا تَقْتَحِمُهُ عَيْنٌ مِنْ قِصَرٍ ولا تَشْنَؤُهُ مِنْ طُولٍ. غُصْنٌ بَيْنَ غُصْنَيْنِ فَهُوَ أَنْضَرُ الثلاثَةِ مَنْظَرًا، وَأَحْسَنُهُمْ قَدًا. لَهُ رُفَقَاءُ يَحُفّونَ بِهِ. إن قَالَ اسْتَمَعُوا لِقَوْلِهِ. وَإن أَمَرَ تَبَادَرُوا إلَى أَمْرِهِ مَحْفُودٌ مَحْشُودٌ. لا عَابِسٌ وَلا مُفْنِدٌ .

قولها ( ظَاهِرُ الْوَضَاءَةِ ) أي ظاهر الجمال، ( أَبْلَجُ الْوَجْهِ ) أي مشرق الوجه مضيئوه، ( حَسَنُ الْخُلُقِ )( لَمْ تَعِبْهُ ثُجْلَة ) الثجلة عِظَمُ البطن مع استرخاء أسفله ( وَلَمْ تُزْرِ بِهِ صَعْلَة ) أي صغر الرأس ( وَسِيمٌ ) المشهور بالحسن كأنه صار الحسن له سمة ( قَسِيمٌ ) الحسن قسمة الوجه ، أي كل موضع منه أخذ قسما من الجمال ( فِي عَيْنَيْهِ دَعَجٌ ) اشتد سوادها وبياضها واتسعت ( وَفِي أَشْفَارِهِ وَطَفٌ ) أي طول ( وَفِي صوَتِهِ صَحَلٌ ) أي شبه البُحة ( وَفِي عُنُقِهِ سَطَعٌ ) أي طول العنق (وَفِي لِحْيَتِهِ كَثَاثَةٌ ) ( أَحْوَرُ ) اشتد بياض بياض عينيه مع سواد سوادهما ( أَكْحَلُ ) أي ذو كُحْلٍ، اسودت أجفانه خلقة ( أَزَجّ أَقْرَنُ) أَي مَقْرُون الحاجبين ( شَدِيدُ سَوَادِ الشّعْرِ ) ( إذَا صَمَتَ عَلاهُ الْوَقَارُ ) أي الرزانة والحِلْم ( وَإِذَا تَكَلّمَ عَلاهُ الْبَهَاءُ) من الحسن ، الجلال والعظمة ( أَجْمَلُ النّاسِ وَأَبْهَاهُ مِنْ بَعِيدٍ وَأَحْسَنُهُ وَأَحْلاهُ مِنْ قَرِيبٍ حُلْوُ الْمَنْطِقِ ) ( فصْلٌ لا نَزْرٌ وَلا هَذرٌ) أي لا قليل ولا كثير أي ليس بقليل فيدل على عِيِّ ولا كثير فاسد ( كَأَنّ مَنْطِقَهُ خَرَزَاتُ نَظْمٍ يَنحدرنَ ) أي كلامه محكم بليغ (رَبْعَةٌ ) (لا تَقْتَحِمُهُ عَيْنٌ مِنْ قِصَرٍ ) أي لا تزدريه لقصره فتجاوزه الى غيره بل تهابه وتقبله (وَلا تَشْنَؤُهُ مِنْ طُولٍ ) أي لا يُبْغَضُ لفرط طوله ( غُصْنٌ بَيْنَ غُصْنَيْنِ فَهُوَ أَنْضَرُ الثّلاثَةِ مَنْظَرًا ) (وَأَحْسَنُهُمْ قَدًا )أي قامة ( لَهُ رُفَقَاءُ يَحُفّونَ بِهِ. إذَا قَالَ اسْتَمَعُوا لِقَوْلِهِ. وَاذَا أَمَرَ تَبَادَرُوا إلَى أَمْرِهِ ) (مَحْفُودٌ) أي مخدوم ( مَحْشُودٌ ) الذي يجتمع الناس حوله (لا عَابِسٌ)( وَلا مُفْنِدٌ) المنسوب الى الجهل وقلة العقل، المـُفْنِد أي لا فائدة في كلامه لكبرٍ أصابه .

قال أبو معبد: هو والله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره وقد هممت أن أصحبه ولأفعلن إن وجدت لذلك سبيلاً.

وأصبح صوت بمكة عال يسمعون الصوت ولا يرون صاحبه يقول:

جزى الله ربُّ الناس خيرَ جزائه

رفيقين حلا خيمتَي أم معبدِ

هما نزلا بالهدى واغتدوا به

فقد فاز من أمسى رفيق محمد

فيا لقصي ما زوى الله عنكم

به من فعال لا يـجارى وسؤدد

ليهن بني كعب مكان فتاتـهم

ومقعدها للمؤمنين بمرصدِ

سلوا أختكم عن شاتها وإنائها

فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد

دعاها بشاةٍ حائلٍ فتحلبت

له بصريحٍ ضرةُ الشاة مزبد

قالت أسماء: فلما سمعناه عرفنا حيث وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن وجهه إلى المدينة.

– لما ارتحل المصطفى قاصدًا المدينة أتاه عتبان بن مالك في رجال من بني سالم فأخذوا خطام ناقته فقالوا: أقم عندنا في العدد والعدة والمنعة فقال: “خلوا سبيلها فإنها مأمورة” فخلوها حتى إذا مرت بدار بني ساعدة اعترضه سعد بن عبادة في رجال فقالوا كالأول وأعاد مثله، حتى إذا وازت دار بني الحارث بن الخزرج اعترضه سعد بن الربيع وعبد الله بن رواحة في رجال فقالوا مثله وأعاد مثله، حتى إذا مرت بدار عدي بن النجار وهم أخواله اعترضه سليط بن قيس في رجال فقالوا: هلم إلى أخوالك إلى العدد والعدة والمنعة قال: “خلوا سبيلها فإنها مأمورة” حتى دانت دار بني مالك بن النجار بركت ناقته المأمورة أي التي أمرها الله تعالى أن تبرك بموضع المسجد أي مسجده عليه السلام وهو يومئذ مربد لغلامين يتيمين من بني مالك بن النجار في حجر معاذ بن عفراء، فلما بركت وهو عليها لم ينزل وثبت فسارت غير بعيد والمصطفى واضعٌ لها زمامها لا يثنيها به ثم التفتت خلفها فرجعت إلى مبركها الأول فبركت به ثم تحلحلت ووضعت جرانها فنزل عنها وذلك في وقت الظهيرة أي الهاجرة، فاحتمل أبو أيوب خالد بن زيد من بني النجار رحله وأدخل ناقته داره ونزل عنده لكونه من أخوال عبد المطلب ولما سألوه النزول عليهم قال: “المرء مع رحله” وخرجت جوار من بني النجار يضربن بالدفوف ويقلن:

نحن جوارٍ من بني النجار *** يا حبذا محمدٌ من جار

فخرج إليهم رسول الله فقال: “أتحبونني“، قالوا: إي والله، قال: “وأنا والله أحبكم” ثلاثًا، قال زيد بن ثابت: وأول هدية دخلت بها أنا قصعة مثرود فيها خبز وسمن ولبن فقلت: أرسلت بها أمي فقال: “بارك الله فيك” ودعا صحبه فأكلوا فلم أرم الباب حتى جاءت قصعة سعد بن عبادة بثريد وعراق لحم وما كان من ليلة إلا وعلى باب المصطفى الثلاثة والأربعة يحملون طعامًا كثيرًا ثم صار سعد بن عبادة يرسل إليه كل يوم قصعة، فأقام بدار أبي أيوب حتى ابتنى مسجده الرحيب أي الواسع بعد شرائه أرضه من قسيم مالكيه، وذلك أن المصطفى سأل عن المربد لمن هو فقال معاذ بن عفراء: لسهل وسهيل ابني عمرو يتيمان لي وأُرضيهما فيه، وقال الدمياطي: إن المصطفى ساومهما فيه ليتخذه مسجدًا فقالا: هبة لك، فأبى حتى ابتاعه بعشرة دنانير، وأمر أبا بكر أن يعطيهما إياها، ثم أمر بالنخل الذي فيه والغرقد فقطع، وباللبن فضرب، وكان فيه قبور جاهلية فنبشت وغيبت العظام وسويت الحفر، وأسس المسجد، وجعل طوله مما يلي القبلة إلى مؤخره مائة ذراع وفي ذينك الجانبين مثل ذلك فهو مربع، وقيل كان أقل من مائة، وجعل الأساس نحو ثلاثة أذرع على الأرض بالحجارة، ثم بنوه باللبن، وجعل رسول الله ينقل معهم الحجارة ويقول: “اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة” وقال قائل:

لئن قعدنا والنبي يعمل *** لذاك منا عمل مضلل

وقال عمار بن ياسر: قتلوني يا رسول الله، حمّلوني فوق ما يتحملون، فقال: “إنما تقتلك الفئة الباغية” فقتل بصفين.

وجعل قبلته لبيت المقدس وجعل له ثلاثة أبوابٍ بابًا في مؤخره وبابًا يقال له باب الرحمة وهو الذي يسمى باب عاتكة والباب الثالث الذي يدخل منه المصطفى وهو الذي يلي ءال عثمان، وجعل عمده الجذوع وسقفه الجريد وبنى بيوته بجبنه باللبن. ومن الفوائد الحسنة ما ذكره مغلطاي أن موضع المسجد كان ابتاعه تُبَّعٌ للمصطفى قبل مبعثه بألف سنة وأنه لم يزل على ملكه من ذلك العهد.

ثم إنه بنى حوله منازل أي مساكن لأهله أي نسائه ومواليه ومن يليه. وبعث زيد بن حارثة وأبا رافع إلى مكة فقدما عليه بفاطمة وأم كلثوم ابنتيه وسودة زوجته وأسامة بن زيد وأمه أم أيمن، وجلس أبو العاص ابن الربيع مع بنته زينب، وخرج عبد الله بن أبي بكر معهم بعيال أبي بكر وفيهم عائشة فقدموا المدينة فأنزلهم في بيت حارثة بن النعمان، كل ذلك وهو في بيت أبي أيوب. وكان أصحابه من المهاجرين والأنصار يبنون مساكنهم حواليه في ظله أي في كنفه، وإن من الأنصار من ترك مسكنه البعيد وسكن بقربه.

-أخرج البيهقي في دلائل النبوة، باب ما جاء في المهاجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم التي أحيا الله تعالى بدعائها ولدها بعد ما مات: عن أنس، قال: عدنا شابا من الأنصار، وعنده أم له عجوز عمياء، قال: فما برحنا أن فاض، يعني: مات، ومددنا على وجهه الثوب، وقلنا لأمه: يا هذه احتسبي مصابك عند الله، قالت: « أمات ابني ؟» قلت: نعم، قالت: « اللهم إن كنت تعلم أني هاجرت إليك وإلى نبيك، رجاء أن تعينني عند كل شديدة، فلا تحمل عليّ هذه المصيبة اليوم».

قال أنس: فوالله ما برحت حتى كشف الثوب عن وجهه وطعم وطعمنا معه.اهـ وأخرجه ابن عدي وابن أبي الدنيا وأبو نعيم.

-روى ابن سعد عن عثمان بن القاسم أنه قال: لما هاجرت أم أيمن، ( من مكة إلى المدينة) أمست بالمنصرف ودون الروحاء، فعطشت، وليس معها ماء؛ وهي صائمة، فأجهدها العطش، فدلي عليها من السماء دلو من ماء برشاء أبيض، فأخذته، فشربته حتى رويت. فكانت تقول: ما أصابني بعد ذلك عطش، ولقد تعرضت للعطش بالصوم في الهواجر، فما عطشت.

وأخرجه ابن السكن من طريق هشام بن حسان عن عثمان بنحوه وقال في روايته: خرجت مهاجرة من مكة إلى المدينة وهي ماشية ليس معها زاد. وقال فيه: فلما غابت الشمس إذ أنا بإناء معلق عند رأسي، وقالت فيه: ولقد كنت بعد ذلك أصوم في اليوم الحار ثم أطوف في الشمس كي أعطش فما عطشت بعد. اهـ

وفي بعض الروايات: فكادت تموت من العطش، فلما كان وقت الفطر وكانت صائمة سمعت حسًا على رأسها، فرفعته، فإذا دلو، برشاء أبيض معلق، فشربت منه حتى رويت، وما عطشت بقية عمرها.اهـ

– روى مسلم في الصحيح، باب الدَّليل على أنَّ قاتل نفسِه لا يكفَّر: أَنَّ الطُّفَيْلَ بنَ عَمْروٍ الدَّوسِيَّ هَاجَرَ إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم إِلَى المَدِينَةِ، وَهَاجَرَ مَعَهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَاجْتَوَوُا المَدِيْنَةَ فَمَرِضَ فَجَزِعَ، فَأَخَذَ مَشَاقِصَ لَهُ فَقَطَعَ بِهَا بَرَاجِمَهُ، فَشَخَبَتْ يَدَاهُ حَتَّى مَاتَ، فَرَآهُ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْروٍ فِي مَنَامِهِ، فَرَآهُ وَهَيْئَتُهُ حَسَنَةٌ، وَرَآهُ مُغَطِّيًا يَدَيْهِ فَقَالَ لَهُ: مَا صَنَعَ بِكَ رَبُّكَ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي بِهِجْرَتِي إِلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: مَا لِي أَرَاكَ مُغَطِّيًا يَدَيْكَ؟ قَالَ: قِيلَ لِي: لَنْ نُصْلِحَ مِنْكَ مَا أَفْسَدْتَ. فَقَصَّهَا الطُّفَيْلُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: (اللَّهُمَّ وَلِيَدَيْهِ فَاغْفِرْ).

قوله: (فَاجْتَوَوُا المَدِيْنَةَ) أي كرهوا المقام بها لضجر ونوع من سقم. قال أبو عبيد والجوهريُّ وغيرهما: اجتويت البلد إذا كرهت المقام به، وإن كنت في نعمة.

وقوله: (فَأَخَذَ مَشَاقِصَ) وهي جمع مشقص، هو سهم فيه نصل عريض. وأمَّا البراجم فهي مفاصل الأصابع، واحدتها: برجمة.

وقوله: (فَشَخَبَتْ يَدَاهُ) أي: سال دمهما.

أمَّا أحكام الحديث: ففيه حجَّة لقاعدة عظيمة لأهل السُّنَّة أنَّ من قتل نفسه أو ارتكب معصية غيرها، ومات من غير توبة فليس بكافر ولا يقطع له بالنَّار بل هو في حكم المشيئة.